Gran Torino

-clint-eastwood

منذ طفولتي المبكّرة، وأنا أجد في دودة الحرير موضوعا جديرا بالتأمّل، وكنت أقف أمام تلك الديدان، وهي تغزل شرانقها، بدهشة شديدة، متأمّلا كيف أنّ هذه الدودة الصغيرة، خوفا من محيطها، تحيط نفسها بتلك الخيوط التي تعدّ من أمتن الخيوط وأمنعها، فماذا لو أنّ دودة ما أمعنت في الخوف واستمرّت بغزلها، فأصبحت شرنقتها قبرا لها؟

الخوف! منه تبدأ قصّة معاناتنا، الخوف الذي يجعل كلا منّا يعود إلى شرنقته، ويغزل حول نفسه الكثير من الخيوط الحقيقية والأخرى الوهمية، يستدرج نفسه إلى فخّ نصبه هو بنفسه، ويقع فيه، يصدّق بأنّ كلّ ما هو خارج الشرنقة عدو، فيتصرّف على هذا الأساس، يفسّر كل حركة، وكل تصرّف على أنّه تهديد وجودي.. عندما ينمو الخوف، تنمو الكراهية، الكراهية ذاتها التي تدخل بعدئذ في حلقة دائرية مع الخوف، لتغذّيه ويغذّيها!

في فيلمه Gran Torino، كلينت إيستوود Clint Eastwood، ممثّلا ومخرجا ومنتجا، يعالج الموضوع فيروي لنا قصّة الجندي الأميريكي السابق في كوريا، والعامل السابق في شركة فورد لصناعة السيّارات، كوفالسكي Kowalski، من أصول بولونية، لكنّه متعلّق بالثقافة الأميريكية، لدرجة كرهه ورفضه للثقافات الأخرى، تزداد وحدته قسوةً مع رحيل زوجته، ليبقى في الشرنقة وحيدا، وسط حيّ أغلب سكانه أصبحوا من الهمونج HMONG، ذوي الأصول الآسيويّة، وتتضح تماما عنصريته تجاه أولئك، تغزو الكراهية والخوف، الكراهية تجاه كل ماهو آسيوي، والخوف من ماض يثقل ضميره، يغزوان حياته، ويعزلانه عن محيطه، وتشاء الصدف أن تجبره على الإحتكاك بأولئك، احتكاك غير إرادي، وغير مرغوب، لكنّه كفيل بجعله يتلقّى القليل من الحبّ، الذي سينزع من قلبه بعضا من الأحكام المسبقة، ويهيّئه لمعرفة أولئك، معرفة تغيّر شخصيته جذريا، ليكتشف أنّ جيرانه رغم اختلافهم، وغرابتهم،لديهم الكثير لكي يعطوه، وخصوصا انسانية لم تكن لديه أصلا! ثمّ تجبره الأحداث على أن يأخذ دور الأب لتلك العائلة، ليدافع عنهم في صدّ محاولة إحدى مافيات الهمونج إجبار الفتى ثاو Thao على الإلتحاق بهم، وهكذا يجد نفسه أقرب لأولئك منه لعائلته! (لن أتابع سرد الأحداث لكي أترك متعة استكشافها لكم!)

الفيلم استطاع الإحاطة، وفقا لرأيي المتواضع، بقصّة الشرنقة التي بدأت بها مقالتي، وحرّضني على التفكير بقدرة الحبّ على تحرير الإنسان، الحبّ الذي يصنع ابتسامة، الإبتسامة التي تغيّر مزاجا، المزاج الجيّد الذي يهدم الأسوار، الأسوار المهدّمة التي تحوّل إلى جسور، الجسور التي تجعل من المعرفة أمرا ممكنا، المعرفة التي تجعلنا أكثر قربا من الآخرين، أكثر فهما لهم، ولأنفسنا!

لا أعرف إن كان أحد ما قد لاحظ وجه الشبه بين قصّة الفيلم، والقصّة المآساوية للسيدة مروة الشربيني، فالمجرم قاتل السيدة مروة كان ألمانيا من أصول روسية، (الحقيقة يضحكني، بقدر ما يقلقني، أولئك المهاجرون الذين يصبحون بعدئذ يمينين كساركوزي مثلا وهو ابن مهاجر! أو مجدي علام (عضو في البرلمان الأوروبي وصحفي لامع) وهو مهاجر مصري! فيصبحون بعدئذ أكثر تطرّفا من يمينيّ البلد نفسه)، لكن بالرغم من التشابه فإنّ نهاية الفيلم مختلفة عن النهاية التراجيدية التي سارت إليها السيدة مروة، للأسف!

الفيلم من انتاج عام 2008، واسمه مقتبس من اسم موديل السيارة التي كانت تمتلك شهرة واسعة في سبعينيات القرن الماضي، وهو اسم يعود لشهرة مدينة تورينو الإيطالية في الولايات المتحدة (في تلك الفترة!)، كمركز هام من مراكز انتاج السيّارات، تجاوزت عائدات الفيلم 200 مليون دولار حول العالم وحصد مجموعة من الجوائز (ويكيبيديا)؛ أعتقد أنّه من أجمل أفلام إيستوود، يستحق المشاهدة المتأنّية للإستمتاع بأفكاره، موسيقاه، ولوحاته الضوئية!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقالات متعلّقة:

في رثاء الإنسان: السيّدة مروة والعرب…

إيجابية… سلبية!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التصنيفات :الفن السابع
  1. 26/07/2009 عند 6:22 صباحًا

    في الحقيقة اثارتني قصـّه الشرنقه .. و نظرا ً لاني قبل ما اقرا هي التدوينه كنت بمدونه أعواد ثقاب عم اقرا عن الاعلام .. فبشكل لا ارادي عملت انزال لنظريه الشرنقة على الاعلام ( الاميركي حصرا ً ) ..

    الاعلام الاميركي يعمل على غزل هي الشرنقه حول الشعب ، لذلك بتلاقي الشعب الاميركي ما بيعرف عن العالم خارج اميركا نهائيا ً .. عايش بمعزل .. و بكتير احيان بخاف من الشعوب الاخرى .. خصـّا ً بعد الاعتداءات اللي حصلت .. فصار في دليل ملموس يخلي هالشعب يضاعف سمك الشرنقة حول نفسه ..

    بالرغم من هيك بشوف انو الشرنقة ضرورية نوعا ً ما ..

    تحياتي

  2. تمّوز
    26/07/2009 عند 1:38 مساءً

    نعم قصته كقصة الكثير منا, ممن نسج أو نسج له المجتمع خيوطاً حريرة ليتقوقع فيها سجين ترهات خوفه لا بل مدافعاً عن جحره وكارهاً كل كا وراء خيوطه. كراهية منبعها الخوف وهي وريثة زيف معتقدات مجتمع. منهم من بدل شرنقته بشرنقة أخرى اعتبرها أفضل وراح يحارب الشرنقة القديمة كمجدي علام مثلاً.
    الكراهية, الخوف, العنصرية و التطرف هو جزء من تكويننا البشري, فإما أن نكون سجناؤه أو أن نخرج منه إلى العالم ونفتح أذرعنا لاآخر فحن هو وهو نحن……

  3. 27/07/2009 عند 1:25 مساءً

    عجبتني قراءتك للفلم وتشبيهك لحالة ايستوود بالشرنقة . . بالفعل أبدع في نسج وحبك القصة، وأيضا تقديم شخصية الرجل الامريكي الكلاسيكية . . ما كان يدافع عن جيرانه في البداية لكن كان يدافع عن حديقة بيته إلا إصرار الهمونغ على رد الجميل بالشكر والهدايا فتح كوة في الشرنقة حتى مزقها عن بكرة أبيها.

    علاقة رجل دعكته الحياة مع طفل غض ومحاولته لصنع رجل منه أكثر ما أسرني بالفلم . . ونظرة الإعجاب والسرور الخفية التي أبداها حينما رأى تلميذه الصغير أجاد في حفظ وممارسة الدرس عندما تقدم للعمل كانت رائعة . . فلم جميل جدا . كنت قد روجت له عبر تويتر وأنت أجدت في الحديث عنه.

    تحياتي باسل

  4. باسل
    27/07/2009 عند 9:26 مساءً

    “طباشير”؛

    للأسف، الإعلام يأخذ دوره السلبي في هذا المجال، وبدل أن يركّز على الجوانب المشتركة والإيجابية، يقوم بالترويج للأشياء السلبية، غالبا لأسباب سياسية! ممّا يزيد من الخوف والكراهية المتبادلة..
    الشرنقة ضرورية؟ ربّما! لعمر معين.. لحدّ معين.. ومتى تجاوزت هذا الحدّ، تصبح قاتلة، خانقة، ولاتسمح للمرء بأن يعيش انسانيته، أو أن يطوّر ذاته الخاصّة، لأنّها تماثله دوما مع جماعته، وتجعله نسخة منهم من دون أن يختار أو حتّى يفكّر.. بالطبع، برأيي، لا مانع من أن يعيش المرء انتماءاته، لكن مع وعيه لحدود هذا الإنتماء بسلبياته، وإيجابياته… أسعدني جدّا مرورك

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    تمّوز؛

    ليس لديّ ما أضيفه على كلامك، أوافقك تماما! أهلا بك.. في بيتك 🙂

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    عبد السلام؛

    شكرا لإطرائك صديقي،
    بالضبط الفيلم نجح تماما برسم التغيّر الذي أصاب كوفالسكي، ومشاعره التي تدرّجت من الكراهية التامّة إلى اللامبالاة وصولا إلى الفهم والتقدير لأشخاص مختلفين تماما، كما هم الهمونج،
    الحبّ بيعمل عمايل.. الحبّ قد يحقق ما لايمكن أن تحقّقه آلاف طائرات ال ف16 أو الميراج أو السوخوي..
    بس ما كنت عارف انك عم تشتغل بترويج الأفلام كمان.. ياأخي نشيط..! أسعدني مرورك كما هو الأمر دوما

  1. No trackbacks yet.

أضف تعليق