الصفحة الرئيسية > دراسات > الممارسات الجنسية المقدّسة في العالم القديم (جـ 2/2)

الممارسات الجنسية المقدّسة في العالم القديم (جـ 2/2)

نتابع في هذه المقالة، ماكنّا قد بدأناه في الجزء الأوّل (اضغط هنا)

  • الممارسة الجنسية الجماعية:

وكانت واحدة من الطقوس الدينية المتبعة على نطاق ضيق جداً في أعياد الربيع عندما كان الناس يحتفلون بعودة روح الخصوبة في عشتار أو تموز، من عالم الأموات. دون شكّ فإنّ هذا النوع من الممارسة الجنسية، ولو أن انتشاره كان محدوداً، ارتبط بعقيدة الأم الكبرى وابنها في كل الشرق الأدنى وانتقلت إلى اليونان وإيطاليا في طقوس سيبل و طقوس ديونيسيوس السريّة.

لعلّ عبادة دينيسوس[1] هي من أكثر العبادات الكلاسيكية التي تركّز على الطقس الجنسي. وقد مثّلت الطقوس الديونيسية السريّة شكلاً من أشكال التصوّف التي يصل فيه المتعبّد إلى الاتحاد بالقوة الإلهية لدينسيوس، روح الخصب الكونية، عبر الخمر والجنس الجماعي[2].

أغلب الظن أن مثل هذه الطقوس كانت معروفة في الفترات الأولى لانتشار المسيحية لدى بعض الفرق الوثنية التي اعتنقت المسيحية، لكننا لا نستطيع تقفي أثرها و أشكالها الحقيقية نظراً أنّ معلوماتنا عنها هي من الكتابات المسيحية الأولى التي بالغت في تصويرها لـ"قبح" مثل هذه الطقوس كما بالغت في نقل كل الأخبار "الوثنية" لاستبيان "صحة" المسيحية ودحض الوثنية.

يُعتقد أن طقوس الجنس الجماعي قد استمرّت لدى كثير من الفرق السريّة، كفرقة "الحشاشين" التي نشأت قي إيران وامتدت دعواتها إلى أنحاء متفرقة من الشرق الأدنى، وقد أقامت هذه الفرق طقوس الجنس الجماعي كنوع من التصوف الإلهي. إلا أننا لا نملك أي دليل تاريخي حقيقي حول مثل هذا الاعتقاد الذي لقي صدىً واسعاُ في كتابات المؤرخين والرحالة الأوربيين ما بين القرنين 11 و 13م، من بينهم الرحالة الإيطالي ماركو بولو، الذي تحدّث عن "الجنّة" لدى فرقة الحشاشين، وبرأي العديد من الباحثين المعاصرين قد بالغ جداً وكان مجحفاً بحق تلك الفرقة التي روى عنها ما كان يقال في ذلك الزمان وليس ما كانت فعلاً عليه[3].

في أوروبا المسيحية استمرت هذه الطقوس فيما يعرف بالديانة السرّية (لا نعرف عنها الكثير حتّى الآن)، والتي عرفت أيضاً في العصور الوسطى بعبادة الشيطان رغم عدم صلتها بالشيطان نهائياً، وكانوا يجتمعون في ليالي القمر الكامل ويمارسون الجنس الجماعي[4] .

  • طقوس البغاء المقدس:

لقد رعت إلهة الحب ما عرف بطقس البغاء المقدس[5] الذي كان يمارس في معابد إلهة الحب في كل الشرق تقريباً، حيث كان على كل امرأة أن تمارس الجنس في معبد عشتار لمرة واحدة في حياتها على الأقل مع أول رجل غريب يريدها مقابل قطعة نقدية رمزية، وكانت الكثرة الغالبة منهنّ يتبعن الطريقة التالية: تجلس الكثيرات منهن في هيكل عشتار، وتزدحم الممرات في الهيكل بالغاديات والرائحات في خطوط مستقيمة وفي كل الاتجاهات، ثم يمر بهنّ الغرباء ليختاروا من يرغبون، ويضاجعونهنّ مقابل قطعة نقدية، وعليهنّ ألا يعدن إلى منازلهنّ حتّى يمارسن الحب[6]. ويقول هيرودت: " فمن كانت من النساء ذات جمال وتناسب في الأعضاء لا تلبث أن تعود إلى دارها. أمّا قليلات الجمال فيبقين في الهيكل زمناً طويلاً، وذلك لعجزهن عن الوفاء بما يفرضه عليهنّ القانون، ومنهنّ من ينتظرن ثلاث سنين أو أربعاً".

إلى جانب هذا النوع من البغاء كان في معابد عشتار كاهناتها الدائمات المكرّسات على الدوام لممارسة البغاء ولإبقاء جذوة الحب متقدة كشعلة النار المتقدة دوماً في معابدها. عرفت هذه النساء باسمهنّ الأكادي القاديشتو (أي النساء المقدسات أو الطاهرات)[7] وكنّ يمارسن الجنس مع مختلف الرجال ولا يخلصن لرجل واحد ولا يتزوجن وأولادهنّ يبقون دونما أب (من بينهم مثلاً الإمبراطور الشهير سرغون مؤسس السلالة الأكادية[8]).

كذلك كانت كاهنات المعبد (القاديشتو) يمارسن طقس الجنس المقدّس مع الكهنة أو الملوك خلال احتفالات رأس السنة، ويمثّل هذا الطقس بعث إله الخصب وقيامته ثم لقائه بعشتار في اتصال جنسي من أجل أن يعم الخصب كل ما في الطبيعة. في هذا الطقس، بعد الاحتفالات الرسمية والشعبية لرأس السنة، يقام سرير من الأسل والأَرز ويمدّ عليه غطاء أعدّ خصيصاً لهذه المناسبة، و تقوم الكاهنة فتغتسل بالمياه المقدسة و يحذو حذوها الكاهن أو الملك، ثم تأخذ زينتها كما تتزين عشتار في لقاء حبيبها، ويؤتى بشجرة الخصب (الصنوبر) لتزين بكل رموز الخصب. تتمدد عشتار(المتمثلة بالكاهنة) على السرير وإلى حضنها المقدس يسعى تموز (المتمثل بالكاهن أو الملك)، و رأسه مرفوع، على أرض رشّت بزيت الأرز العطر ثم يضاجعها[9].

تحفظ لنا الرقم المسمارية العديد من القصائد الشعرية "الدينية" التي تصف هذه العلاقة القدسية:

تقول هي:

أمّا من أجلي، من أجل فرجي، من أجلي، الرابية المكومة عالياً، لي أنا العذراء، فمن يحرثه لي؟ فرجي، الأرض المرويّة، من أجلي، لي أنا الملكة، من يضع الثور هناك؟

فيأتيها الجواب: أيّتها السيدة الجلية، الملك سوف يحرثه لك، دموزي (تموز) الملك، سوف يحرثه لك. فتجيب جذلى:

احرث فرجي يا رجل قلبي.

وفي مكان آخر نقرأ: أيها العريس الغالي على قلبي، عظيمة هي مسرّتك، حلوة كالعسل، أيها الليث الغالي على قلبي، عظيمة هي مسرتك، حلوة كالعسل. لقد أسرتني. أقف مرتجفة أمامك. أيها العريس، لو تحملني إلى الخدر… [10].

تخبرنا الوثائق القديمة عن استمرار تلك الممارسات في القرون الميلادية الأولى فالكاتب السوري لوقيانوس السمسطائي يشرح بوضوح البغاء المقدس الممارس من قبل نساء مدينة جبيل في معبد أفروديت في أفقا خلال القرن الثالث الميلادي [11].

تغلغلت العبادة العشتارية في قلب الديانة اليهودية وأثّرت فيها كثيراً فقد كان سليمان من معتنقي هذه العبادة وليس نشيد الأناشيد المنسوب إليه إلا تأكيد على مثل هذا التأثير. إلا أنّه لاحقاً تم إدانة هذه الطقوس من قبل الديانة اليهودية نفسها باعتبارها تمثّل طقوساً آثمة فاسدة وابتكر الكهنة اللاويون [12] مفهوم الأخلاق الجنسي: عذرية النساء قبل الزواج، السيطرة الكاملة على معرفة الأبوة…الخ [13]. وهدف هذا التحريم، الذي ظهر جلياً في سفر اللاويين في الكتاب المقدس، هو تأسيس مؤسسة دينية أبوية ذكورية متسلطة على الأمة. هذا المفهوم الأخلاقي الجديد تم تبنيه من قبل الكنيسة ولاحقاً من قبل الديانة الإسلامية وتبدلت ظروف إتباعه بتبدل الأوضاع الثقافية و الاجتماعية و الاقتصادية، فكلما زادت تلك الأوضاع تخلفا و تراجعا أصبح تطبيق هذه المفهوم أشد صرامة.

في وقت لاحق، تم القضاء على البغاء المقدس تماماًً ونهائياً من قبل الديانة المسيحية في حملتها ضد المعابد و"المعتقدات الوثنية" في القرن الرابع والخامس الميلادي.


[1] : ديونيسيوس هو أحد آلهة الخصب اليونانية ويقابله عند الرومان باخوس, أما في الشرق فيقابله تموز. بشكل عام اعتبر ديونيسوس ممثلاً للطاقة الطبيعية التي تحمل الثمار على النضج, وكانت الكرمة هي شجرته المقدسة التي تنج الخمر المقدس. عرفت طقوس ديونيسيوس السرية بطقوس الشرب والمجون والرقص والجنس كأحد الطرق الصوفية للوصول إلى الاتحاد مع الذات الإلهية المخصبة.

[2]: Campbell, Joseph. Creative Mythology. p. 159-161.

[3] : فرهاد دفتري. خرافات الحشاشين وأساطير الاسماعيليين. ترجمة سيف الدين القصير. ص. 169-180.

[4]: M. Esther Harding. Woman’s Mysteries. P. 141.

[5] : إن كلمة بغاء هي مجحفة جداً بحق هذا النوع من الممارسات الجنسية المقدسة فهو لم يكن بغاء حقيقياً , وإنما ممارسة جنسية مقدسة كنذر لإلهة الحب والخصب, والبغايا أنفسهن لم يكن يسمين بغايا إنما قديسات. على أية حال فإننا نتبع ها هنا المصطلح العام المعروف بالرغم من تحفظنا الشديد عليه.

[6] : بول فريشاور. الجنس في العالم القديم. ترجمة فائق دحدوح. ص. 94-95.

[7] : س. ه. هوك. ديانة بابل وآشورز ترجمة نهاد خياط. ص. 24.

[8] : الجدير بالذكر هنا أن قصة ترعرع سرغون مطابقة تماماً لقصة موسى في التوراة, حيث أن أم سرغون رمت بابنها في سلة في النهر خوفاً من بطش الكاهن الأكبر, ثم التقطه راعياً من على ضفاف النهر وربّاه حتى شب وأصبح ملكاً وأسس أول إمبراطورية في التاريخ.

[9] : صموئيل كريمر. طقوس الجنس المقدس عند السومريين. ترجمة نهاد خياط. ص. 116.

[10] : صموئيل كريمر. طقوس الجنس المقدس عند السومريين. ترجمة نهاد خياط. ص.135.

[11] : انظر لوقيانوس السمسطائي. الإلهة السورية.

[12] : وهم الكهنة من نسل لاوين بن يعقوب المكلفون بالاهتمام بالقدس, وقد وضعوا وسطروا السفر الثالث من الكتاب المقدس الذي عرف بسفر اللاويين كمرشد للطقوس الكهنوتية والمحرم و المحلل في القدسية.

[13] : مارلين ستون. يوم كان الرب أنثى " نظرة اليهودية والمسيحية إلى المرأة". ترجمة حنا عبود. ص. 160.

التصنيفات :دراسات
  1. mahamed
    08/07/2009 عند 2:18 صباحًا

    ألا تظن أن زواج المتعة هو مماثل للبغاء المقدس أخذ امتيازاته من الماضي في الشرق و من العادات الراسخة في هذه المجتمعات.

    هل من دراسات حول هذا الموضوع؟

  2. تمّوز
    08/07/2009 عند 3:34 مساءً

    محمد… لا أظن أن زواج المتعة مماثل للبغاء المقدس على الاطلاق, فهو زواج أ, عقد ديني بغرض المتعة أما البغاء فهو نذر للاله أة تقدمة أو أضحية … حول موضوع زواج المتعة والزواج في الاسلام هناك العديد من الدراسات , ما يخطر في بالي وانصحك به هو كتاب : الاسلام والجنس في القرن الأول الهجري, دراسة في الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. د.نجمان ياسين. يعرض الكتاب تنظيم أشكال الزواج والعلاقات الجنسية والمهور والطلاق وما إلى هنالك, فيما يتعلق بزواج المتعة راجع ص. 34 إلى ص. 39.
    لا اظن ان احداً تطرق الى دراسة مقارنة بين زواج المتعة والبغاء المقدس, على حسب علمي. فإني شخصياً أراهما بعيدين ولعل ما يقابل زواج المتعة في الشرق القديم هو الحق الذي اعطي للرجل, خاصة في شريعة حمورابي, بزواج متعة أو لانجاب الأولاد اذا كانت امرأته عاقر أو بها عطب جسدي….

  3. obadao
    13/09/2009 عند 4:15 صباحًا

    تعليقي متأخر ولكن أن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبدا تبعا لادعاءات المتأخرين!!….ولكن أظن ما يشفع لي أني جديد على هذه الشبكة….
    تموز…..كل الشكر لك….أعجبني كثيرا وضوحك وموضوعيتك وسعة اطلاعك..
    وأكثرما لفت انتباهي في مقالتك هذه هو توضيحك للفرق بين “العقل” وما تفرضه علينا القيم الدينية….صحيح أن عقل الانسان قد يتحفظ على مثل هذه الممارسات بعد أن قطع شوطا طويلا في رحلة الوعي والادراك والمعرفة ولكن هذا لا يعني أنها ممارسات “خاطئة” أو “صائبة” بالمطلق…..وهذا موضوع هام علينا أن ندركه في بلادنا ونسقط هذه الفكرة على الكثير من أنماط سلوكنا التي يلعب التقليد دورا هاما في ترسيخها واعطائها نوعا من القدسية….
    تحياتي…….

  4. تمّوز
    13/09/2009 عند 1:22 مساءً

    أهلاً بك في أي وقت. والشكر لك أنت.
    القيم الدينية هي قيم إنسانية, و لما كانت إنسانية فلا بد أن تتغير بتغير الانسان. لقد أصبح الانسان عبداً لنفسه و لمؤسسته الدينية المهترئة ولم يعد قط عبداً لإله أو إلهة…
    كل تلك القيم الدينية جميعاً هي دوغمائيات خلقتها المؤسسة الدينية للسيطرة على المجتمع, وأصبحت غير قابلة للنقد أو الشك أو حتى المناقشة, ومن يتجرأ عليها ينبذ من الجماعة….
    ع كل حال, نحن أبعد ما تتصور عن الحرية (أقصد حرية العقل) فليس من السهل إسقاطها على سلوكياتنا ….

  5. 18/09/2009 عند 12:06 صباحًا

    جميييييييييييل! بس؟ مافي جزء ثالث؟ دبرنا معلم!

  6. تمّوز
    18/09/2009 عند 12:13 صباحًا

    هلا رزان
    و شكراً ..
    رح ندبركم بتدوينات جديدة…. ع الله تعجبكم كمان

  7. سامي حوراني
    07/01/2010 عند 5:46 مساءً

    هذه معتقدات كانت موجودة في ظلمة الحياة، ولكن كيف بأت ومن أين تحور النقاء الى بغاء؟ فكل شيء له بداية هنا اسأل كيف كانت هذه البداية؟ شكرا

  8. سامي حوراني
    07/01/2010 عند 7:22 مساءً

    هذه معتقدات كانت موجودة في ظلمة الحياة، ولكن كيف بدأت ومن أين تحور النقاء الى بغاء؟ فكل شيء له بداية هنا اسأل كيف كانت هذه البداية؟ شكرا

  1. No trackbacks yet.

أضف تعليق